تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 168 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 168

168 : تفسير الصفحة رقم 168 من القرآن الكريم

** قَالَ يَمُوسَىَ إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والاَخرين ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه السلام ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام ولهذا قال الله تعالى له: «فخذ ما آتيتك» أي من الكلام والمناجاة {وكن من الشاكرين} أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء قيل كانت الألواح من جوهر وإن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاماً مفصلة مبينة للحلال والحرام وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} وقيل الألواح أعطيها موسى قبل التوراة والله أعلم, وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منها والله أعلم, وقوله {فخذها بقوة} أي بعزم على الطاعة {وأمر قومك يأخذوا بأحسنه} قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه. وقوله {سأريكم دار الفاسقين} أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب قال ابن جرير وإنما قال {سأريكم دار الفاسقين} كما يقول القائل لمن يخاطبه سأريك غداً إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره, ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد والحسن البصري وقيل معناه {سأريكم دار الفاسقين} أي: من أهل الشام وأعطيكم إياها وقيل: منازل قوم فرعون والأول أولى والله أعلم لأن هذا بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم.

** سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لاَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَُخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق, أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر, وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبداً, وقال سفيان بن عيينة في قوله: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي, قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة, قلت ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا, والله أعلم. وقوله {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا به} كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} وقوله {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيل} أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها, وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلاً, ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله {ذلك بأنهم كذبوا بآياتن} أي كذبت بها قلوبهم {وكانوا عنها غافلين} أي لا يعلمون شيئاً مما فيها, وقوله {والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الاَخرة حبطت أعمالهم} أي من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات حبط عمله, وقوله {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها إن خيراً فخير وإن شراً فشر وكما تدين تدان.

** وَاتّخَذَ قَوْمُ مُوسَىَ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ * وَلَمّا سُقِطَ فَيَ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنّهُمْ قَدْ ضَلّواْ قَالُواْ لَئِن لّمْ يَرْحَمْنَا رَبّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري, من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم فشكل لهم منه عجلاً, ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام, فصار عجلاً جسداً له خوار: والخوار صوت البقر, وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور, حيث يقول تعالى إخباراً عن نفسه الكريمة {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحماً ودماً له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم. ويقال إنهم لما صوت لهم العجل رقصوا حوله وافتتنوا به وقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي قال الله تعالى: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفع} وقال في هذه الاَية الكريمة {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيل} ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السموات والأرض ورب كل شيء ومليكه أن عبدوا معه عجلاً جسداً له خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبي داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله {ولما سقط في أيديهم} أي ندموا على ما فعلوا {ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لن} وقرأ بعضهم لئن لم ترحمنابالتاء المثناة من فوق {ربن} منادى {وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين} أي من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم التجاء إلى الله عز وجل.